اللغة هي العالم، لأن إدراكه، وفهمه وتحليله، وتطوره يتم من خلال اللغة، ومن دونها لا يوجد اتصال أو تبادل للأفكار أو المعاني أو الرموز، لأن الأفكار هي اللغة، فلا توجد فكرة خارج اللغة، لأن النظريات اللغوية والاتصالية القديمة، والتي لا تزال شائعة لدينا، أن الفكرة توجد أولاً ثم تحملها اللغة لكي تعبر عنها، بعد ثورة الألسنيات – اللغويات – العظمى التي طورت العلوم الاجتماعية، أصبحت الفكرة هي اللغة ولا انفصام بينهما.

ومن ثم تطورت النظريات على نحو هائل، وتمددت النظريات والمفاهيم الألسنية حول النص، ثم الخطاب، والسرديات بعد ذلك، لتشكل نقلة نوعية في تطور العلم الاجتماعي في الأدب والسياسة والقانون والاجتماع بكل فروعه، والتحليل الثقافي، على نحو أدى إلى تحول كيفي في مناهج دراسة هذه العلوم على اختلافها انطلاقاً من ثورة اللغة ونظرياتها ومناهجها.

هذه المقدمة الوجيزة ترمي إلى الإشارة إلى تراجع اللغة العربية خلال العقود الماضية، بعدما شهدت تطوراً كبيراً في قاموسها اللغوي، ودخول مفردات جديدة مع تطور أنماط الحديثة، واستعارة المفردات والمصطلحات الغربية وتعريبها، لاسيما منذ نهاية القرن التاسع عشر، من خلال اللغة القانونية والسياسية والفلسفية، ثم في علم الاجتماع.

تطور مهم حدث، وذلك على الرغم من بعض الأعطاب المستمرة مُذّاكَ وحتى الآن في دقة ترجمة وتعريب بعض هذه المصطلحات والمفاهيم إلى لغتنا العربية.

من ناحية أخرى لا تزال اللغة العربية تعاني من عديد المشكلات حتى تنطلق مثلها مثل اللغات الكبرى الحية وعلى رأسها الإنجليزية والأسبانية والفرنسية، ومن ثم تحتاج إلى تطوير في البنُى النحوية، وفي رفدها المستمر بالمفردات والترجمات على نحو سريع لإغنائها.

صحيح أن بعض كبار كتاب العربية وشعراءها ومثقفيها قاموا بدور كبير في السعي إلى تحريرها من القوالب اللغوية النمطية القديمة والتجديد في أساليبها ومجازاتها، إلا أن تدهور مستويات تعليم اللغة العربية ومناهجها في مدارسنا أدى إلى تدهور في نوعية لغة الخطاب – أيا كان حقله العلمي أو السياسي أو الثقافي – وهو ما يظهر في خطاب النخبة المعارضة والمثقفة والإعلامية.. الخ، الذي يتسم بالركاكة والتناقضات والمفردات والأساليب اللغوية والبيانية التقليدية والتي يغُلب عليها الشعاراتية، أو اللغة الخشبية الجوفاء فاقدة المعاني والدلالات.

نحن نعيش في فضاء من المفردات والمجازات والأفكار القديمة التي تحملُها هذه الأنماط اللغوية والخطابية، ولا تستطيع أن تجد فارقاً نوعياً بين لغة بعض الخطابات الحزبية المعارضة أو الحكومية وبعضها بعضاً، ولا تمايزات حقيقية فيما بينهم.

بل يجُمع بينهم السطحية والتعميمات الجامحة، والانفصال بينهم وبين البحوث الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجادة والموضوعية والعميقة عن واقع المشكلات العصرية الممتدة والمركبة، وطبيعة التحولات في البنية الاجتماعية.

من الملاحظ أيضاً أن هذه الخطابات – والبيانات – تبدو بعيدة عن لغة ومصطلحات العالم العولمي وما بعده، أنها على أكثر تقدير لغة – ستينية وسبعينية، وبعضها تُداخله اللغة الأيديولوجية، مع بعضُ من اللغة الحقوقية لجماعات حقوق الإنسان.

بعض هذه الخطابات تتناسق مع بعض من مصطلحات لغة الأمم المتحدة ومنظمات التمويل الدولية العامة والحيادية والتي يعتريها بعض من الغموض، دونما فحص أو تعمق في مدى جدواها وصلاحيتها في الإطار المصري بسماته ومشكلاته وتعقيداته.

لغة جوفاء تتأسس عليها خطابات مستقيلة عن مواجهة الواقع وتحولاته وتغيراته وإشكالياته على المستوى المعولم وما بعده، والإقليمي والوطني. هي لغة تتداخل فيها الأحكام الأخلاقية، والقيمية، والأمنيات التي تخايلُ صناع هذه الخطابات.

الأخطر أنك لا تلحظ شخصية كل خطاب وانتماءه السياسي والاجتماعي وتحيزاته إلا قليلاً من خلال بعض المفردات التي يوشّي بها النصُ الخطاب ويجملُ كجزء من الأناقة اللفظية السوقية للخطاب، اللغة العربية عموماً في محنة لأنها تتدهور لصالح العامية، والخضوع للإنتاج الإنشائي والبياني لمنتجي الخطاب.

من ناحية أخرى السوق اللغوي بات يحفلُ بالفوضى اللغوية، والركاكة، والشعارات والبذاءة اللغوية التي تقترب من لغة الشارع المنفلت والمتحرر من مقتضيات اللياقة الاجتماعية، والتي يقارب فيها لغة السب والقذف أو انتهاك ما كان يطلق عليه المحرم الجنسي أو الديني، من ثم نحن إزاء عنف باللغة وعليها، وبعض من فقدان المعاني والدلالات، والنزعة لإطلاق الأحكام المطلقة حول أمور وظواهر وحقائق نسبية، والأحكام الأخلاقية واللا أخلاقية في صياغات حاملة لتعميمات جامحة.

وثمة غياب للمنطق الذي يحكم بنية الخطاب أيا كان مجاله ونسبه ومنتجه.

وهو خطاب سياسي واجتماعي هروبي من مواجهة ذاته بنية ومرجعية ومنطوقاً، لأن منتجي هذا الخطاب يلجأون إلى اللغة الدينية علي نحو عشوائي في محاولة لإكساب الخطاب جاذبية وقبولاً واحتراماً ورضا لدى الجماعات المستهلكة للخطاب، وأيضاً لرفع المسؤولية عن الذات ــ أو الذوات ــ المنتجة للخطاب في الالتزام والعزم على العمل الجاد والإنجاز السياسي في الواقع الحي.